فصل: سورة نوح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



كما أن استقرار حقيقة الإيمان في حياة البشر أو جماعة منهم معناه اتصال هذه الحياة الأرضية بالحياة الأبدية، وارتفاعها إلى المستوى الذي يؤهلها لهذا الاتصال. معناه اتصال الفناء بالبقاء والجزء بالكل والمحدود الناقص بالكمال المطلق.. وهي حصيلة تربى على كل جهد وكل تضحية ولو تحققت على الأرض يوماً أو بعض يوم في عمر البشرية الطويل، لأن تحققها ولو في هذه الصورة يرفع أمام البشرية في سائر أجيالها مشعل النور في صورة عملية واقعية، تجاهد لتبلغ إليها طوال الأجيال!
ولقد أثبت الواقع التاريخي المتكرر أن النفس البشرية لم تبلغ إلى آفاق الكمال المقدر لها بأية وسيلة كما بلغتها باستقرار حقيقة الإيمان بالله فيها. وأن الحياة البشرية لم ترتفع إلى هذه الآفاق بوسيلة أخرى كما ارتفعت بهذه الوسيلة. وأن الفترات التي استقرت فيها هذه الحقيقة في الأرض، وتسلم أهلها قيادة البشرية كانت قمة في تاريخ الإنسان سامقة، بل كانت حلماً أكبر من الخيال، ولكنه متمثل في واقع يحياه الناس.
وما يمكن أن ترتقي البشرية ولا أن ترتفع عن طريق فلسفة أو علم أو فن أو مذهب من المذاهب أو نظام، إلى المستوى الذي وصلت أو تصل إليه عن طريق استقرار حقيقة الإيمان بالله في نفوس الناس وحياتهم وأخلاقهم وتصوراتهم وقيمهم وموازينهم.. وهذه الحقيقة ينبثق منها منهج حياة كامل، سواء جاءت مجملة كما هي في الرسالات الأولى، أو مفصلة شاملة دقيقة كما هي في الرسالة الأخيرة.
والدليل القاطع على أن هذه العقيدة حقيقة من عند الله؛ هو هذا الذي أثبته الواقع التاريخي من بلوغ البشرية باستقرار حقيقة الإيمان في حياتها ما لم تبلغه قط بوسيلة أخرى من صنع البشر: لا علم، ولا فلسفة، ولا فن، ولا نظام من النظم. وأنها حين فقدت قيادة المؤمنين الحقيقيين لم ينفعها شيء من ذلك كله؛ بل انحدرت قيمها وموازينها وإنسانيتها، كما غرقت في الشقاء النفسي والحيرة الفكرية والأمراض العصبية، على الرغم من تقدمها الحضاري في سائر الميادين، وعلى الرغم من توافر عوامل الراحة البدنية والمتاع العقلي، وأسباب السعادة المادية بجملتها. ولكنها لم تنل السعادة والطمأنينة والراحة الإنسانية أبداً. ولم يرتفع تصورها للحياة قط كما ارتفع في ظل الحقيقة الإيمانية، ولم تتوثق صلتها بالوجود قط كما توثقت في ظل هذه العقيدة، ولم تشعر بكرامة النفس الإنسانية قط كما شعرت بها في تلك الفترة التي استقرت فيها تلك الحقيقة.
والدراسة الواعية للتصور الإسلامي لغاية الوجود كله وغايه الوجود الإنساني تنتهي حتماً إلى هذه النتيجة.
وهذا كله يستحق بدون تردد كل ما يبذله المؤمنون من جهود مضنية، ومن تضحيات نبيلة، لإقرار حقيقة الإيمان بالله في الأرض. وإقامة قلوب تنطوي على قبس من نور الله، وتتصل بروح الله. وإقامة حياة إنسانية يتمثل فيها منهج الله للحياة. وترتفع فيها تصورات البشر وأخلاقهم، كما يرتفع فيها واقع حياتهم إلى ذلك المستوى الرفيع، الذي شهدته البشرية واقعاً في فترة من فترات التاريخ.
وستعرض البشرية كما أعرضت عن دعوة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم الكرام. وستذهب مع القيادات الضالة المضلة الممعنة في الضلال. وستعذب الدعاة إلى الحق أنواعاً مختلفة من العذاب، وتنكل بهم ألواناً شتى من النكال. كما ألقت إبراهيم في النار. ونشرت غيره بالمنشار، وسخرت واستهزأت بالرسل والأنبياء على مدار التاريخ.
ولكن الدعوة إلى الله لابد أن تمضي في طريقها كما أراد الله. لأن الحصيلة تستحق الجهود المضنية والتضحيات النبيلة، ولو صغرت فانحصرت في قلب واحد ينطوي على قبس من نور الله، ويتصل بروح الله!
إن هذا الموكب المتصل من الرسل والرسالات من عهد نوح عليه السلام إلى عهد محمد عليه أزكى السلام لينبئ عن استقرار إرادة الله على اطراد الدعوة إلى حقيقة الإيمان الكبيرة، وعلى قيمة هذه الدعوة وقيمة الحصيلة. وأقل نسبة لهذه الحصيلة هي أن تستقر حقيقة الإيمان في قلوب الدعاة أنفسهم حتى يلاقوا الموت وما هو أشد من الموت في سبيلها ولا ينكصون عنها. وبهذا يرتفعون على الأرض كلها وينطلقون من جواذبها، ويتحررون من ربقتها. وهذا وحده كسب كبير، أكبر من الجهد المرير. كسب للدعاة. وكسب للإنسانية التي تشرف بهذا الصنف منها وتكرم. وتستحق أن يُسجد الله الملائكة لهذا الكائن، الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء. ولكنه يتهيأ بجهده هو ومحاولته وتضحيته لاستقبال قبس من نور الله. كما يتهيأ لأن ينهض وهو الضعيف العاجز بتحقيق قدر الله في الأرض، وتحقيق منهجه في الحياة. ويبلغ من الطلاقة والتحرر الروحي أن يضحي بالحياة، ويحتمل من المشقة ما هو أكبر من ضياع الحياة، لينجو بعقيدته وينهض بواجبه في محاولة إقرارها في حياة الآخرين، وتحقيق السعادة لهم والتحرر والارتفاع. وحين يتحقق لروح الإنسان هذا القدر من التحرر والانطلاق، يهون الجهد، وتهون المشقة، وتهون التضحية، ويتوارى هذا كله، لتبرز تلك الحصيلة الضخمة التي ترجح الأرض والسماء في ميزان الله.
والآن نستعرض قصة نوح في هذه السورة، وما تمثله من حقيقة تلك الحقيقة!
{إنآ أرسلنا نوحاً إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جآء لا يؤخر لو كنتم تعلمون}..
تبدأ السورة بتقرير مصدر الرسالة والعقيدة وتوكيده: {إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه}.. فهذا هو المصدر الذي يتلقى منه الرسل التكليف، كما يتلقون حقيقة العقيدة. وهو المصدر الذي صدر منه الوجود كله، وصدرت منه الحياة. وهو الله الذي خلق البشر وأودع فطرتهم الاستعداد لأن تعرفه وتعبده، فلما انحرفوا عنها وزاغوا أرسل إليهم رسله، يردونهم إليه. ونوح عليه السلام كان أول هؤلاء الرسل بعد آدم عليه السلام. وآدم لا يذكر القرآن له رسالة بعد مجيئه إلى هذه الأرض، وممارسته لهذه الحياة؛ ولعله كان معلماً لأبنائه وحفدته حتى إذا طال عليهم الأمد بعد وفاته ضلوا عن عبادة الله الواحد. واتخذوا لهم أصناماً آلهة. اتخذوها في أول الأمر انصاباً ترمز إلى قوى قدسوها. قوى غيبية أو مشهودة. ثم نسوا الرمز وعبدوا الأصنام! وأشهرها تلك الخمسة التي سيرد ذكرها في السورة. فأرسل الله إليهم نوحاً يردهم إلى التوحيد، ويصحح لهم تصورهم عن الله وعن الحياة والوجود. والكتب المقدسة السابقة تجعل إدريس عليه السلام سابقاً لنوح. ولكن ما ورد في هذه الكتب لا يدخل في تكوين عقيدة المسلم، لشبهة التحريف والتزيد والإضافة إلى تلك الكتب.
والذي يتجه إليه من يقرأ قصص الأنبياء في القرآن، أن نوحاً كان في فجر البشرية؛ وأن طول عمره الذي قضى منه ألف سنة إلا خمسين عاماً في دعوته لقومه، ولابد أنهم كانوا طوال الأعمار بهذه النسبة.. أن طول عمره وأعمار جيله هكذا يوحي بأن البشر كانوا ما يزالون قلة لم تتكاثر بعد كما تكاثرت في الأجيال التالية. وذلك قياساً على ما نراه من سنة الله في الأحياء من طول العمر إذا قل العدد، كأن ذلك للتعويض والتعادل.. والله أعلم بذلك.. إنما هي نظرة في سنة الله وقياس!
تبدأ السورة بتقرير مصدر الرسالة وتوكيده، ثم تذكر فحوى رسالة نوح في اختصار وهي الإنذار:
{أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم}..
والحالة التي كان قوم نوح قد انتهوا إليها، من إعراض واستكبار وعناد وضلال كما تبرز من خلال الحساب الذي قدمه نوح في النهاية لربه تجعل الإنذار هو أنسب ما تلخص به رسالته، وأول ما يفتتح به الدعوة لقومه، الإنذار بعذاب أليم، في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما جميعاً.
ومن مشهد التكليف ينتقل السياق مباشرة إلى مشهد التبليغ في اختصار، البارز فيه هو الإنذار، مع الإطماع في المغفرة على ما وقع من الخطايا والذنوب؛ وتأجيل الحساب إلى الأجل المضروب في الآخرة للحساب؛ وذلك مع البيان المجمل لأصول الدعوة التي يدعوهم إليها:
{قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جآء لا يؤخر لو كنتم تعلمون}..
{يا قوم إني لكم نذير مبين}.. مفصح عن نذارته، مبين عن حجته، لا يتمتم ولا يجمجم، ولا يتلعثم في دعوته، ولا يدع لبساً ولا غموضاً في حقيقة ما يدعو إليه، وفي حقيقة ما ينتظر المكذبين بدعوته.
وما يدعو إليه بسيط واضح مستقيم: {أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون}.. عبادة لله وحده بلا شريك. وتقوى لله تهيمن على الشعور والسلوك. وطاعة لرسوله تجعل أمره هو المصدر الذي يستمدون منه نظام الحياة وقواعد السلوك.
وفي هذه الخطوط العريضة تتلخص الديانة السماوية على الإطلاق. ثم تفترق بعد ذلك في التفصيل والتفريع. وفي مدى التصور وضخامته وعمقه وسعته وشموله وتناوله للجوانب المختلفة للوجود كله، وللوجود الإنساني في التفصيل والتفريع.
وعبادة الله وحده منهج كامل للحياة، يشمل تصور الإنسان لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية؛ ولحقيقة الصلة بين الخلق والخالق، ولحقيقة القوى والقيم في الكون وفي حياة الناس.. ومن ثم ينبثق نظام للحياة البشرية قائم على ذلك التصور، فيقوم منهج للحياة خاص. منهج رباني مرجعه إلى حقيقة الصلة بين العبودية والألوهية، وإلى القيم التي يقررها الله للأحياء والأشياء.
وتقوى الله.. هي الضمانة الحقيقية لاستقامة الناس على ذلك المنهج، وعدم التلفت عنه هنا أو هناك، وعدم الاحتيال عليه أو الالتواء في تنفيذه. كما أنها هي مبعث الخلق الفاضل المنظور فيه إلى الله، بلا رياء ولا تظاهر ولا مماراة.
وطاعة الرسول.. هي الوسيلة للاستقامة على الطريق، وتلقي الهدى من مصدره المتصل بالمصدر الأول للخلق والهداية، وبقاء الاتصال بالسماء عن طريق محطة الاستقبال المباشرة السليمة المضمونة!
فهذه الخطوط العريضة التي دعا نوح إليها قومه في فجر البشرية هي خلاصة دعوة الله في كل جيل بعده، وقد وعدهم عليها ما وعد الله به التائبين الثائبين:
{يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى}..
وجزاء الاستجابة للدعوة إلى عبادة الله وتقواه وطاعة رسوله هي المغفرة والتخليص من الذنوب التي سلفت؛ وتأخير الحساب إلى الأجل المضروب له في علم الله. وهو اليوم الآخر. وعدم الأخذ في الحياة الدنيا بعذاب الاستئصال (وسيرد في الحساب الذي قدمه نوح لربه أنه وعدهم أشياء أخرى في أثناء الحياة).
ثم بين لهم أن ذلك الأجل المضروب حتمي في موعده، ولا يؤخر كما يؤخر عذاب الدنيا.
وذلك لتقرير هذه الحقيقة الاعتقادية الكبرى:
{إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون}..
كما أن النص يحتمل أن يكون هذا تقريراً لكل أجل يضربه الله؛ ليقر في قلوبهم هذه الحقيقة بوجه عام. بمناسبة الحديث عن الوعد بتأخير حسابهم لو أطاعوا وأنابوا إلى يوم الحساب.
وراح نوح عليه السلام يواصل جهوده النبيلة الخالصة الكريمة لهداية قومه، بلا مصلحة له، ولا منفعة؛ ويحتمل في سبيل هذه الغاية النبيلة ما يحتمل من إعراض واستكبار واستهزاء.. ألف سنة إلا خمسين عاماً.. وعدد المستجيبين له لا يكاد يزيد؛ ودرجة الإعراض والإصرار على الضلال ترتفع وتزداد! ثم عاد في نهاية المطاف يقدم حسابه لربه الذي كلفه هذا الواجب النبيل وذلك الجهد الثقيل! عاد يصف ما صنع وما لاقى.. وربه يعلم. وهو يعرف أن ربه يعلم. ولكنها شكوى القلب المتعب في نهاية المطاف، إلى الجهة الوحيدة التي يشكو إليها الأنبياء والرسل والمؤمنون حقيقة الإيمان.. إلى الله..
{قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهارا فلم يزدهم دعآئي إلا فرارا وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السمآء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجا والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً}...
هذا ما صنع نوح وهذا ما قال؛ عاد يعرضه على ربه وهو يقدم حسابه الأخير في نهاية الأمد الطويل. وهو يصور الجهد الدائب الذي لا ينقطع: {إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً}..
ولا يمل ولا يفتر ولا ييئس أمام الإعراض والإصرار: {فلم يزدهم دعائي إلا فراراً}.. فراراً من الداعي إلى الله. مصدر الوجود والحياة، ومصدر النعم والآلاء، ومصدر الهدى والنور. وهو لا يطلب أجراً على السماع ولا ضريبة عل الاهتداء! الفرار ممن يدعوهم إلى الله ليغفر لهم ويخلصهم من جريرة الإثم والمعصية والضلال!
فإذا لم يستطيعوا الفرار، لأن الداعي واجههم مواجهة، وتحين الفرصة ليصل إلى أسماعهم بدعوته، كرهوا أن يصل صوته إلى أسماعهم. وكرهوا أن تقع عليه أنظارهم، وأصروا على الضلال، واستكبروا عن الاستجابة لصوت الحق والهدى: {وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً}.. وهي صورة لإصرار الداعية على الدعوة وتحين كل فرصة ليبلغهم إياها؛ وإصرارهم هم على الضلال.
تبرز من ثناياها ملامح الطفولة البشرية العنيدة. تبرز في وضع الأصابع في الآذان، وستر الرؤوس والوجوه بالثياب. والتعبير يرسم بكلماته صورة العناد الطفولي الكامل، وهو يقول: إنهم {جعلوا أصابعهم في آذانهم} وآذانهم لا تسع أصابعهم كاملة، إنما هم يسدونها بأطراف الأصابع. ولكنهم يسدونها في عنف بالغ، كأنما يحاولون أن يجعلوا أصابعهم كلها في آذانهم ضماناً لعدم تسرب الصوت إليها بتاتاً! وهي صورة غليظة للإصرار والعناد، كما أنها صورة بدائية لأطفال البشرية الكبار!
ومع الدأب على الدعوة، وتحين كل فرصة، والإصرار على المواجهة.. اتبع نوح عليه السلام كل الأساليب فجهر بالدعوة تارة، ثم زاوج بين الإعلان والإسرار تارة: {ثم إني دعوتهم جهاراً ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً}..
وفي أثناء ذلك كله أطمعهم في خير الدنيا والآخرة. أطمعهم في الغفران إذا استغفروا ربهم فهو سبحانه غفار للذنوب: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً}.. وأطمعهم في الرزق الوفير الميسور من أسبابه التي يعرفونها ويرجونها وهي المطر الغزير، الذي تنبت به الزروع، وتسيل به الأنهار، كما وعدهم برزقهم الآخر من الذرية التي يحبونها وهي البنين والأموال التي يطلبونها ويعزونها: {يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً}..
وقد ربط بين الاستغفار وهذه الأرزاق. وفي القرآن مواضع متكررة فيها هذا الارتباط بين صلاح القلوب واستقامتها على هدى الله، وبين تيسير الأرزاق، وعموم الرخاء.. جاء في موضع: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السمآء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} وجاء في موضع: {ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم..} وجاء في موضع: {ألا تعبدوا إلا الله إنَّني لكم منه نذير وبشير وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله...} وهذه القاعدة التي يقررها القرآن في مواضع متفرقة، قاعدة صحيحة تقوم على أسبابها من وعد الله، ومن سنة الحياة؛ كما أن الواقع العملي يشهد بتحققها على مدار القرون. والحديث في هذه القاعدة عن الأمم لا عن الأفراد. وما من أمة قام فيها شرع الله، واتجهت اتجاهاً حقيقياً لله بالعمل الصالح والاستغفار المنبئ عن خشية الله.. ما من أمة اتقت الله وعبدته وأقامت شريعته، فحققت العدل والأمن للناس جميعاً، إلا فاضت فيها الخيرات، ومكن الله لها في الأرض واستخلفها فيها بالعمران وبالصلاح سواء.